سعيد رحيم
في لقاء أمسية تقديم كتاب “الراعي الصغير الذي صار شيوعيا”، لصاحبه علي فقير، التي نظمها فرع الجمعية المغربية لحقوق الإنسان بالمحمدية يوم 24 مارس 2024، تم الوقوف على واقعة مشكوك في صحتها أوردها الكاتب في الصفحتين 217 و 218، من هذا المؤلف التأريخي المهم، الذي يصعب تصنيفه أدبيا ومكتوب بلغة فرنسية راقية ذات حس ثوري يعكس شخصية صاحبه، المحترمة.
والكاتب طبعا هو المناضل علي فقير قيادي في حزب النهج الديمقراطي العمالي وقيادي سابق في المنظمة الماركسية اللينينية المغربية “إلى الأمام”، فيما عرف باليسار الجديد في المغرب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وأستاذ التعليم التقني في مجال التدبير الإقتصاد.
وتتعلق الواقعة المشكوك في أمرها – والتي أثارت جدلا في هذا اللقاء – بما قدمه الكاتب ع. فقير من شهادة مبالغ فيها “وقعت” داخل سجن لعلو بالرباط في عام 1984، وتخص عبد السلام ياسين، قبل أن يؤسس ويتزعم ما أصبح يعرف ب”جماعة العدل والإحسان”. وهي الواقعة أو “الحادثة” نفسها التي تطرق لها هذا الأخير، خمس سنوات قبل صدور الكتاب، وبشكل مناقض تماما لما رواه صاحب سردية “الراعي الصغير…”.
والإشارة هنا، فقد كنت (أنا صاحب هذه السطور) أول من إتصل بعبد السلام ياسين يوم إحضاره بالزنزانة رقم 6 بسجن لعلو، وهي زنزانة نثنة مكتظة بأكثر من أضعاف حمولتها البشرية من سجناء الحق العام. وهو يشهد على ذلك بنفسه في إحدى فيديوهاته؛ يقول فيها: أن شابا تقدم منه وحرضه على رفض الوضعية داخل هذه الزنزانة. وليس ذلك الشاب سوى (أنا)، حيث أخبرت لجنة الحوار وباقي أعضاء المجموعة الماركسية من أجل فك الوضعية المزرية على هذا المعتقل رأي. وكذلك كان. أكثر من ذلك فقد تنازلت له رفقة الراحل عبد الله النحيلة ورفيق آخر من أوطم كلية العلوم الرباط عن الزنزانة التي كنا نقيم بها في “الحي العصري”.
أقول هذا تأكيدا لموقعي من تطورات الأحداث اللاحقة، وليست – كما قد يتبادر إلى البعض – تصفية لحسابات مع أي كان.
وقبل البدء فإن الغاية من هذه الورقة تحليل الواقعة واستجلاء أبعادها القائمة أو المحتملة، وليس استهداف الطعن في أي شخص من الذوات المعنية.
*الواقعة من زاوية ع.فقير*
يقول الكاتب ع.فقير بالحرف في الصفحتين المشار إليهما ما يلي:
” في أحد المساءات بلغ إلى علمنا من خلال قنواتنا الخاصة أن الشيخ ياسين متواجد بالساحة الكبرى للسجن يرفض الإلتحاق بزنزانته والدم ينزف من أنفه” وأن ” أغلب المعتقلين السياسيين بنفس السجن رفضوا التعبير عن التضامن معه وأن الراعي الصغير شعر بالفضيحة من هذا الموقف السلبي. فتقدم علي فقير وعمر الزيدي بخذاع يقظة الحراس ونزلا إلى الساحة، حيث الشيخ عبد السلام ياسين جالس وأنفه ينزف وعلما منه مباشرة أنه تعرض لاعتداء من طرف رئيس المعقل”.
وتابع الراعي الصغير الذي صار شيوعيا قوله “وصلت فرقة من الحراس يتقدمهم رئيس المعقل الذي طلب منه كل من عمر الزيدي وعلي فقير تقديم اعتذاره للضحية قبل أي شيء آخر. لكن السجان شرع في التبرير وختم – رئيس المعقل – بالجملة التالية “هذا وأمثاله مستعدون لذبحكم أنتم التقدميون إنكم أول أعدائهم”.
“وبغضب جنوني، أجاب على فقير هذا معتقل سياسي مثلنا ونحن كلنا ضحايا القمع المخزني. وتدخل الزيدي بدوره في نفس الاتجاه زاعمين أننا نتحدث باسم مجموع المعتقلين السياسيين بالحي العصري، وهو ما كان خطأ، ولكن كان يتوجب الخداع”.
ويواصل السارد في الفقرة الموالية: “بعد هذه المناقشات، اتصال هاتفي… المعتدي قبّل رأس الشيخ راجيا منه المسامحة. ثم رد الشيخ وبصوت مرتفع الله يسامح. شكرا أصدقائي”.
انتهت رواية علي فقير في هذا الحادث.
*الواقعة من زاوية ع.ياسين*
وقبل عرض بعض شهادات إثبات – وقد كنت شخصيا من بين المعتقلين السياسيين بسجن لعلو لحظة وقوع هذا الحدث المشكوك في أمره – سأستعرض أهم ما ورد في هذا الشأن على لسان “الضحية” عبد السلام ياسين وهو موثق كتابة وصوتا؛ بصورة مناقضة تماما لما قاله علي فقير في كتابه، ذاك.
وأثير الإنتباه هنا إلى أني سأتعامل مع الطرفين في نقل هذه الواقعة من منطلق أنهما شخصان راشدين بمعزل عن كونهما معتقلين سياسيين وبمعزل عن تموقعها السياسي أو الإيدولوجي داخل الخريطة السياسية المغربية، والتي سأعود إليه فيما بعد، في هذه الورقة.
نقلت الجريدة الإلكترونية “هيسبريس” يوم 9 يوليوز 2008، عن عبد السلام ياسين كلاما له مأخوذا من حوار أجرته معه قناة الحوار اللندنية وبثته رابط رقمي يمكن إرساله على الخاص. أو نقر العنوان أسفله في محرك غوغل.
هو تحت عنوان عريض “*ضربت أحد الحراس في سجن لعلو*”. لسبب لا يعرفه إلا هو ولم يحكه لا لعلي فقير ولا لعمر الزيدي اللذان هبّا لنجدته – فيما أطلق عليه هو “معركة با إدريس- يقول: “إنني بعد تعرضي لدفع من رئيس المعقل ارتميت على هذا الأخير ولكمته لكما في وجهه ومزقت ثيابه وسقطت الشارات والعلامات التي يفتخر بها وأسقطت له تاجه الذي يفتخر به.. والحراس والموظفون والكبراء واقفون*” ثم أضاف أن الأصبع الصغير من يده اليسرى الخنسر انكسر (وليس أنفه الذي ينزف، كما قال علي!)، وضربه هو كذلك مؤكدا أن المعركة كانت “متكافئة”.
وحسب قوله المناقض لما حكاه وما كتبه علي فقير فإنه هو ع. ياسين من استدعى اليساريين للتضامن معه وعددهم، كما قال، ما بين 60 و100 ورفضوا التضامن معه إلا واحدا منه لم يذكره بالإسم وأن الحادثة وقعت داخل إدارة السجن وليس بساحته الكبرى التي تحدث عنها فقير، وهي ساحة تبعد عن الإدارة بعشرات الأمتار ومتوارية خلف جدران وأبواب حديدية لا يمكن معرفة ما يجري بداخلها.
*شهود من الدرجة الرفيعة*
لن اتطرق إلى كل ما ورد من تفاصيل في ذلك الحوار السوريالي على لسان ع. ياسين لأنه كله افتراء وكذب، والذي وصفه ع.فقير ب”الرجل الشريف”!”L’homme honnête” ولمن أراد صحة ما أقول فما عليه إلا أن يتصل ويعرض محتوى الرابط على مسامع وأنظار الشهود التالية أسماؤهم؛ النقيب والقائد السياسي وأحد الرموز التاريخية لليسار المغربي المناضل والمعتقل السياسي السابق عبد الرحمان بنعمرو – الذي اتمنى له الصحة وطول العمر – وقد كان بدوره في تلك الفترة بسجن لعلو. المناضلين عبد الغني القباج وعبد الإله بنعبد السلام والسباعي عبد الرفيع اللاجئ منذ 1990 بفرنسا والراقي عبد الغني الكاتب العام السابق للنقابة الوطنية للتعليم المنضوية تحت لواء الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، والذي تم نقله إلى سجن لعلو بعد اعتقاله بمدينة الحسيمة حيث كان يشتغل أستاذا للعلوم آنذاك بإحدى مؤسسات التعليم العمومي.
أما في سياق الشاهد عيان على هذه الواقعة، وهو عمر الزيدي أحد قادة اليسار الجديد السبعيني، والذي زعم علي فقير أنه بمعيته خدعا يقظة الحراس والتحقا بالشيخ ” في الساحة الكبرى حيث هو جالس والدم ينزف من أنفه”، فقد أجاب بالحرف في اتصال معه حول هذا الحادث المفترض ل ع.ياسين:
“لا اتذكر ان حصل له نزيف ولا اتذكر انه تعرض لأي اعتداء. كنت التقيه باستمرار في درج الساحة ونخوض في نقاشات فكرية ولم يقل لي أي من هذه الأمور”.
*سؤال الخلفية السياسية*
والآن أعود إلى مسألة الخلفية السياسية للتصريحين المتناقضين للرجلين معا، باعتبارهما قادة كبار في منظمتين سياسيتين متناقضتين ومتنافرتين سياسيا وإيديولوجيا، خصوصا ما جاء على لسان صاحب كتاب الراعي الصغير.. علي فقير.
ولابد من التأكيد هنا بوضوح أني أستثني من هذه الورقة التفكيكية كل ما ورد في باقي فصول الكتاب من وقائع مهمة منعزلة عن هذا الحدث الذي ترتبت عليه تداعيات سياسية شغلت بال الرأي العام. وتتطلب التحقيق فيها من قبل الفاعلين السياسيين المعنيين بها مباشرة فكريا وتنظيميا ومن طرف الأعضاء المنخرطين أو المتعاطفين مع تنظيمي هذين الرجلين القياديين؛ النهج والعدل والإحسان وكذا من طرف الباحثين والمهتمين بالتاريخ السياسي المعاصر للمغرب.
فإذا كان ع. فقير قد تحدث في كتابه بشجاعة ثورية قل نظيرها لا تخضع لأي “رقابة ذاتية” فعليه أن يتقبل كذلك وفق قواعد شرّح ملح أنتقاد ما كتبه في هذا الشأن بنفس الشجاعة والروح الثورية.
وبداية إنه من غير المقبول بثاتا من قائد في منظمة سياسية يسارية أو يمينية تدعي تمثيل الجماهير ألا يكون ملماً بالموضوع الذي يتطرق إليه، قبل الحكم عليه وتقييمه إن كان صادقا أو كاذبا.
والملحوظة الأولى هنا إن ما كتبه ع.فقير جاء متأخرا بخمس سنوات عما تفوه به ع. ياسين. والواضح من الناحية المنهجية لقائد سياسي ألا يكون على إطلاع بحيثيات الموضوع الذي يشتغل عليه خصوصا وأنه موضوع سياسي بامتياز. و جوهر ما قاله ع.ي الذي وصفة فقير ب”Lhomme honnête”، أنه لا يذكره لا هو ولا وعمر الزايدي بخير وقد هبّا لنجدته – حسب سيناريو علي – بل يتهمهما ومجموعتهما بالعجب العجاب ولا يذكرهما حتى بالإسم ولا يعترف بتظيميهما السياسيين. والأدهى من هذا أنه يزدري ويتنكر للنضال الذي خاضه معتقلو اليسار عموما اجتماعيا وسياسيا ولمعاركهم الحقيقية في قضايا مختلفة محلية وطنية ودولية أدت إلى استشهاد يساريين داخل أقبية النظام من أجل تحسين شروط اعتقال كافة المعتقلين السياسيين الذين وفروا للشيخ شروطا الكرامة بتضحياهم مقابل الوضع النيّء الذي وجدوه فيه، والذي لم يشارك فيه ولو بحبة خردل، ودفاعهم حتى عن معتقلي الحق العام في ذلك السجن الرهيب سيء الذكر.
كما يمكننا، والحالة هذه، أن ندعي أن القائد السياسي ع.فقير قد تعمد عن قصد تجاهل ما ورد على لسان ع.ي. ولتكتيك سياسي معين في غير محله، حسب تقديرنا – بالنظر إلى التوجهين السياسيين والإيديولوجيين المتنافرين جذريا – قد ألقى بباقة ورد على الشيخ بعد وفاته بشهور ليبعث عبره برسالة سياسية مبطنة إلى تنظيم الإسلام السياسي الذي يمثله وليس لمخاطَب الراحل الظاهر على الورق.
ووفقا لقواعد التحليل السياسي يمكن اعتبار تلك الرسالة المبطنة من قائد سياسي إلى آخر دعوة للتقارب بين تنظيم الإسلام السياسي وحزبه النهج الديمقراطي. تنظيمان متنافيان جملة وتفصيلا. ما بين طموح بناء الدولة الوطنية الديمقراطية ذات العمق الشعبي والدولة الشوفينية الفاشيستية والظلامية.
والسؤال المنجي والثوري بلغة ع.فقير ولغتنا كذلك وبغض النظر عن هذه الحكاية المتضاربة والمهتزة حتى على لسان المعنيين بها مباشرة، هو ما مدى انسجام مغازلة قيادي ماركسي لينيني مع قياديي تنظيم يستعمل الدين لتفسير وممارسة السياسية.
إن ع.فقير يعي جيدا وأكثر من غيره الفرق بين رجل دين ورجل دين السياسة. ع.ياسين تم اعتقاله في 84 لتدخله وانتقاده للشأن السياسي وليس الديني ومن هذا المنطلق كان تعامل اليساريين معه بداية عندما حطت به الرحال في سجن لعلو، لا غير.
*المرجع المبدئي*
ولكي نختم، نعود إلى القادة الحقيقيين لمنظمة “إلى الأمام”، التي يعتبر حزب النهج الديمقراطي نفسه استمرارا لها، وعلى رأسهم أبراهام السرفاتي. ففي حوار مع هذا الرمز – الأكثر حضورا في تاريخ اليسار الجذري – بسجن لعلو في نفس الفترة التي كان يتواجد بها كل الذين وردت أسمامهم في هذه الورقة وآخرون، قال السرفاتي جوابا على أسئلتنا عن علاقة التنظيم الماركسي بالإسلام السياسي إن “المسألة مرتبطة بشرطين:
– الأول موقف الإسلام السياسي من المرأة
– والثاني موقف الإسلام السياسي من الصراع الطبقي”.
ولا أدري أي من هذين الشرطين تحققا دون علم العامة أو الخاصة اعتبرهما ع.فقير جديرين ببعث الرسائل المبطنة حول قضية منخورة، مثل شجر الكلخ لجماعة سياسية لم تستوف الشرطين الديمقراطيين السالفين على لسان رفيقه التاريخي. أم أنها مجرد وهم من أوهام الرؤيا المخادعة التي لم تعد في وقتنا الحالي سوى خرافة من خرافات العجائز.
وحتى لا تكون خرجة الرفيق علي طعنة أخرى في ظهر اليسار المغربي، الذي لا يخلو من مؤاخذات متفاوتة أو مما وصفه هو بنفسه في الصفحة 127ب”الخطأ القاتل” ليكون الثاني من نوعه استراتيجيا، نضع هذه الورقة بين يدي المعنيين بها لعلها تحرك المياه الراكدة لسبب من الأسباب الحقيقية أو الواهية.
ولكم الكلمة..