نص مداخلتي في حفل توقيع كتاب “الراديو النشأة الأدوار والذكريات” للصديق ميلود بكريم، الذي احتضنته النقابة الوطنية للتعليم يوم 19 يوليوز 2024 بالمحمدية./
/ سعيد رحيم
يمكن الإقرار بداية بأننا نعيش اليوم في خضم ثورة غير مسبوقة تاريخيا في ميدان الإتصال والتواصل والصحافة والإعلام الجماهيري(mass-média ou média de masse)، منذ ظهور أو صحيفة قبل أزيد من أربعة قرون في بريطانيا وبعدها في 1777 في الولايات المتحدة الأمريكية. وظهورها في المغرب في منتصف القرن 19 كنجنس غريب عن المجتمع إلى غاية ظهور ما هو أغرب منها(الراديو) في بداية القرن ال20 وفي نهاية العشرينيات من نفس القرن في المغرب.
في هذه الورقة التوطئة سنتناول دور الإعلام من خلال الرأي العام كحقل اشتغال تنصبُّ عليه كل وسائل التواصل منذ نشأتها إلى ثورة اليوم.
إنه لا يمكن الحديث عن “الماس ميديا” أو الميديولوجيا، على حد تعبير ريجيس دوبريه¹ دون تصور المجموعات البشرية التي هي مجال اهتمام الإعلام ككل.
وهكذا فإن الميديو- الوسيط أو الوسائط الإعلامية هي كل الوسائط التي تؤدي إلى توصيل المعلومة من تقنيات ومطبوعات وأدوات البث الصوتي والصورة عبر الأثير والذبذبات والرقميات.. وتتداخل فيها مؤسسات التعليم والتلقين العقائدي والإشارات والرموز وحتى العطور التي يستعملها الناس بصفة عامة، توصل معلومة ما. وبالإضافة إلى اللغة المستخدمة فإن هناك حاجة لتفكيك رموز المعلومة، بمختلف تمثلاتها، اعتمادا على علم الدلالات، السيميولوجيا ودراسة المعنى واللسانيات..
إن أهمية الخطاب الإعلامي تتجلى كذلك في اختلاف لغة التخاطب واختلاف المجموعات البشرية التي يستهدفها الخطاب. فهل على المتلقي – باعتباره رأيا عاما – أن يكون ملما بكل هذه العلوم لكي يستوعب المعنى من الخطاب الموجه لتشكيل الرأي العام؛ تأطيره وتوجيهه؟ خصوصا أن رمزية الخطاب الإعلامي قد تتجاوز أحيانا ما هو لغة منطوقة إلى حركات أو رسومات تشكيلية وألوان يستعين بها الوسيط الإعلامي لتحفيز رأي أو فكرة دون أخرى.
إنه رغم التقسيم الذي وضعه ريجيس دوبريه لتاريخ الميديولوجيا ولخصه في:
1 عصر الإنتاج الخطي (المخطوطات والنقوش والعلامات)
2 عصر الإنتاج المطبوع(الكتاب)
3 عصر الإنتاج السمعي البصري.
فإنه على خلاف باقي العلوم الدقيقة هناك استحالة القطيعة الإبستيمولوجية – كما حددها غاستون بشلار2 – في علوم الإعلام والتواصل. ذلك إنه على الرغم من الثورة التكنولوجية في الميدان فقد ظلت كل الوسائط السالفة الذكر في حاجة إلى سابقاتها لكي تعطي معنى ودلالة للخطاب الإعلامي الجماهيري المؤطر للرأي العام.
وهذا ما يجعل أي مقاربة في التعامل مع المادة الإعلامية تكتسي صعوبة معرفية لا تخضع لمرجعية واحدة مستقلة بل لعدة مرجعيات (سياسية ثقافية تاريخية أنتروبولوجية اقتصادية سميائية ..إلخ.
إن قراءة وتفكيك مشهد إعلامي ما يتطلب من الباحث والدارس وحتى من المتلقي المستهدف كرأي عام الاشتغال على ثقافة موسوعاتية – بالمعنى النبيل للثقافة – ونستحضر هنا مثال على ذلك لكونه مايزال طريا فيما يروج من تمظهرات الرأي العام وليس من أجل اتخاذ موقف منه؛ ويتعلق الأمر ب”برفض عميد كلية تسليم جائز التفوق لطالبة تضع كوفية على كثفها”.
إن شكل الحركة التي قام بها عميد الكلية عند لمسة خيوط الكوفية لا يمكن أن تفهم وأن تستكمل دلالة صورتها إلا بعد تراجعه ونزوله من المنصة رافضا تسليم الجائزة للطالبة. ولا تكتمل دلالة هذا الصورة/ المشهد بشكل نهائي وكامل إلا إذا كان للمتلقي /الرأي العام/ مرجعية ثقافية وسياسية وعلى دراية بعلاقة الكوفية بما يجري من أحداث وتطورات لها علاقة مباشرة بالظرفية التي تجتازها القضية الفلسطينية في أبعادها الإنسانية والحقوقية عالميا.
وهنا بالضبط يمكن الالتحاق بالتصور يعطيه دوبريه لخطورة الإعلام عبر الإلمام بثقافات ومعارف أخرى.
مثال آخر ويتعلق هذه المرة ب”حملة المقاطعة التي شهدها المغرب قبل بضع سنوات تجاه مواد استهلاكية /إفريقيا، سنطرا وسيدي على/. لقد شكلت هذه المقاطعة حينها قوة ضاغطة تزعمها الرأي العام بتحريض من الوسيط الرقمي، خاصة فايسبوك، وإن كانت قوة الضغط أخف مما أحدثه الرأي العام في ربيع 2011 على الصعيد العربي. فإذا كانت حملة الكوفية قد التقت إيجابيا مع أحداث دولية وبررتها قرارات قانونية وجنائية لما يتعرض له الشعب الفلسطيني من حرب إبادة جماعية على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي فهل بالمقابل كانت حملة مقاطعة المواد الاستهلاكية المحلية و ليست ذات تبعات دولية، تلك، على صواب أم أنها حملة تحمل في طياتها بعدا سياسيا آخر يتوخي إضعاف و”تهشيش”
fragilisation/” و” ابتدال /vulgarisation” المعنى السياسي للمقاطعة لأجل خسارة اقتصادية محدود زمنيا مقابل ربح سياسي متوسط أو بعد المدى، لعب فيه الرأي العام دورا رئيسا يكاد يخاطب اللاوعي.
إن هذا ما يمكن إلحاقه بقولة لبيير بوريو³
“ce qu’il y’a de plus terrible dans la communication c’est l’inconscient de la communication” “إن ما هو رهيب في التواصل هو اللاوعي بالتواصل”
وهنا لابد من الوقوف عند معنى الرأي العام؛ فهو مفهوم نظري يتكون من معطيات ومن معلومات وافتراضات قد تكون مقبولة بشكل تشكل أحكاما شعبية تتبناها مجموعة وطنية أو إثنية أو عرقية أو مهنية.. وقد تكون أحكاما إيجابية أو سلبية. إلا أنه – الرأي العام – ليس مفهوما علميا ولكنه مؤثر واقعيا.
وفي التصور الإغريقي خاصة الأفلاطوني هناك الفرق بين(محب الرأي le philodoxe) و(philosophe محب الحكمة) بقدر ما أن الأول – محب الرأي – يبني تصوراته على الإحساس والانطباعات يبني الفيلسوف – محب الحكمة – نظريته على المنطق والاستدلال والقياس والاستقراء.. أي على استخدام العقل أساسا.
إن محب الرأي (le philodoxe) لا ينتمي بالضرورة لحقل الوهم، لذلك فهو ناجع بالنسبة لممتهن السياسة في تعبئة الرأي العام وعند صياغة القوانين على عكس ممتهني العلم الذين تنبني معارفهم على أسس واضحة وبمقاييس معللة.
وسنلاحظ بهذا الصدد وفي ظل تواتر الثورة الإعلامية كما نعيشها اليوم أن المؤسسات الرسمية وشبه الرسمية المشتغلة في ميدان الصحافة والإعلام ومن بينها المنابر الحزبية أو الجمعوية قد تراجعت أدوارها الرئيسية في تأطير وتوجيه الرأي العام مقابل تنامي الوسائط الأخرى الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي. وكثرتها بشكل غير مسبوق كمصادر للإخبار أفقدت الخبر.
ويمكن القول؛ لقد فقدت الوسائط الرسمية السمعية البصرية الرسمية أدوارها حيال الجمهور ومنها الحزبية والنقابية والجمعوية.. بسبب انحصار أفقها النضالي السياسي بشكل عام ومراوحة الإعلام الرسمي مكانه ضمن ثوابت إعلامية مكرورة موسمية ومناسبتية وتعاملها مع الرأي العام باعتباره قاصر، دون أن يعني هذا ملء الوسائط الحديثة الفراغ. بل هيمنت على العديد من هذه الوسائط الإلكترونية – بسبب ما يمكن اعتباره تهافتا رقميا – عقلية خدمة أهداف السلطة على عكس الأدوار الرئيسية للصحافة المتمثلة في تقديم الخدمة العمومية لمن هم خارج السلطة. وهذا نابع من التهميش الذي تعرضت له المؤسسات الإعلامية الرسمية وتقزيم أدوارها في تأطير وصناعة الرأي العام، خاصة الراديو والتلفزة ووكالة الأنباء والإعلام الحزبي أيضا مقابل تدعيم وتقوية المنابر الإعلامية الموالية للأجهزة أو المنابر الأجنبية التي لها مقرات في البلد.
إنها نفس الملاحظة بشأن التهميش الذي تعرضت له مؤسسة البرلمان حيث لا وجود لقياسات متابعة الجلسات البرلمانية على السمعي البصري، التي بإمكانها أن تساهم في بناء الرأي العام إلى جانب التعتيم الإعلامي الرسمي على الأخبار التي قد تشكل أولوية بالنسبة للرأي العام الوطني كما هو الحال بمشكل الماء في فيكيك أو غيرها أو مضاعفات وتطورات قضية معامل تكرير النفط لاسامير بالمحمدية وسيدي قاسم وغياب البرامج الحوارية ذات البعد التأطيري في هذا الشأن العام
ولا نكاد نعثر في موقع “ماروك ميتري” المتخصص في قياس نسب المشاهدة السمعية البصرية على إحصائيات تفيدنا في هذا المضمار، فقط بعض الإحصائيات غير المحينة والمتعلقة بنسب مشاهدة المسلسلات وسهرات الضحك أو البرامج المبتذلة لترويج وإعادة إنتاج الرداءة..
ويمكن اعتبار هذا في حد ذاته تأطيرا وتوجيها للرأي العام نحو اللامبالاة والتفاهة كمنظومة جديدة في أدوار الإعلام.
وقد أدى تهميش المؤسسات مقابل تقوية الأجهزة إلى فسح المجال أمام سلطة المال لتأطير وتوجيه الرأي العام. وهو ما ساهم بشكل ملحوظ في التضييق على الحرية وضرب القيم الإنسانية والأخلاقية التي ناضلت من أجل تحقيق في زمن غير بعيد مؤسسات إعلامية وطنية وحزبية ونقابية وجمعوية مهتمة وشكلت مكسبا من المكاسب المعنوية والجمعوية في تأطير وتوجيه الرأي العام، بالنسبة لأجيال سابقة.
إن ما هو أفظع ليس انتقاد أصحاب الرساميل فالمؤسسات الإعلامية في حاجة إليها بل المعضلة تكمن في مصادر هذا المال في ظل غياب الشفافية ونظام المحاسبة والمنافسة الشريفة والديمقراطية التي تؤطر الإجراءات القانونية والمهنية فضلا عن التأثير السلبي لسلطة المال على وتوجيه الرأي العام في صياغة القوانين وعلى مؤسسات الضبط الذاتي لمهنة الصحافة والإعلام وتراجع الأقلام الصحفية المهنية وظهور موارد بشرية في القطاع تتسول الخبر وغياب قيم الحرية والتضييق على العمل النقابي المهني الجاد وانعكاس هذا الوضع سلبا على المواضيع التي تهم الرأي العام من قبيل ملفات الفساد الكبرى في قطاعات التعليم والصحة والشبكات الطرقية والفلاحة والماء والصفقات العمومية وفساد النخبة السياسية ومصادر تمويل الأحزاب والنقابية ومصادر تمويل الأحزاب والنقابات والحملات الانتخابية .
وهكذا يتحول الرأي العام إلى حمل وديع مدجن تحت سلطة المال التي تجعل من الإعلام سلاحا للتأثير عليه وتوجيهه.
إنه بقدر ما يتحول الصحفي إلى كائن يتملكه الخوف من ضياع منصبه تضيع مصالح دافعي الضرائب بشكل يومي وتتهاوى القيم بسبب تفشي الفساد الإعلامي الذي ينخر باقي القطاعات وارتفع تكلفة الفساد بسبب سيطر المال غير الشفاف وتسلل أصحابه إلى مراكز القرار في الصحافة والإعلام.
ومع ذلك تبقى منابر أخرى تقاوم هذا التحول في منظومة قيم الرأي العام في ظل ثورة إعلامية مازالت في البداية.
—–هوامش——
¹-ريجيس دوبريه (بالفرنسية: Régis Debray) (من مواليد 2 سبتمبر 1940) هو فيلسوف فرنسي، وصحفي، ومسؤول حكومي سابق، وأكاديمي. معروف بنظريته في الميديولوجيا، …
ميديولوجية الصورة. وهو من أهم الفلاسفة المعاصرين، إهتماما بفلسفة الصورة، ويمكن عده فيلسوف تاريخ الصورة، إذ تتبع تطور مفهوم الصورة وتجلياتها الوجودية ..
². غاستون باشلار (27 يونيو 1884 – 16 أكتوبر 1962)، فيلسوف فرنسي. وأحد أهم الفلاسفة الفرنسيين، وهناك من يقول أنه أعظم فيلسوف ظاهري.
³. پيير بورديو (بالفرنسية: Pierre Bourdieu) ( 1930 – 23 يناير 2002) عالم اجتماع فرنسي، أحد الفاعلين الأساسيين بالحياة الثقافية