عبد الرحمن النوضة
كثير من الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، سواءً كانت مُصَنَّـفَـة كَـ «إِصْلَاحِية»، أم كَـ «يَسَارِيَة»، تُرَكِّزُ كلّ جُهُودها على المُشاركة في الانتخابات العامّة، وعلى الوصول إلى البرلمان، وعلى أَمَل تَـغيير القوانين السَّائِدة في المُجتمع. وتزعم هذه الأحزاب والنقابات والجمعيات أنها هكذا سَتُحَـقِّـق «إصلاح» الدّولة القائمة، و«إصلاح» النظام السياسي القائم. وتدّعي أنها هكذا سَتُنْجِز «الدّيموقراطية»، و«المُسَاوَاة»، و«حقوق الانسان»، و«دولة الحَـقّ والقانون»، الخ. لكن هذه الأحزاب، والنقابات، والجمعيات، لا تَـهتمّ بما فيه الكِـفَايَة بِما تُـعْـلِنُه النظرية الماركسية. حيث أن بعض الاكتشافات النظرية التي جاء بها الفِكْر الماركسي، تَطرح أنه من العَبَث مُحاولة إصلاح الدّولة الرّأسمالية القائمة في المُجتمع، أو محاولة إصلاح النظام السياسي الرَّأْسَمَالِي القائم، عَبْرَ الْاِكْتِـفَاء بِـتَـغْيِير الأشخاص المسئُولين الكبار في الدولة، أو عَبْرَ تـغيير القوانين القائمة، وَلَوْ تَوَاصَلَت هذه المُحاولات الإصلاحية خلال عُـقُود، أو قُرُون من الزَّمَان. ولماذا ؟
لأن العُنصر الذي يُحَدِّد نَوْعِيَة الدّولة القائمة، ونوعية النظام السياسي القائم في المُجتمع، ليس هو القَوَانِين القَائِمَة، وَلَا هُو الأَشْخَاص الحَاكِمِين أو السَّائِدِين في الدّولة، وَإِنَّمَا هو نَمَط الإِنْتَاج (mode de production) الاقتصادي السَّائد في هذا المُجتمع المـعني. فإذا أردنا تَـغيير نوعية الدّولة القائمة، أو نَوْعِيَة النظام السياسي القائم، يجب أن نُـغَيِّر نَوْعِيَة نَمَط الْإِنْتَاج (الاقتصادي) السَّائِد في المُجتمع المعني. أي في حالتنا الرَّاهِنَة، يجب الْإِطَاحَة بِنَمَط الإنتاج الرَّأْسَمَالِي القائم في المُجتمع، وَتَـعْـوِيضُه بِنَمَط إنتاج اشْتِرَاكِي ثَوْرِي.
وَكَمِثَال مَلْمُوس، وَبَـعد مُرُور سنوات على بِدَايَاتِهَا، أَكَّـدَت تَجَارِب (مَا سُمِّـيَ بِـ) ثَوَرَات «الربيع العربي»، في كُلٍّ من تُونُس وَمَصْر، بين سنوات 2011 و 2020، أَكَّـدَت أن مُحَاوَلات تَـغْيِير الْأَشْخَاص الحَاكِمِين (عَبْر إِسْـقَاط الرَّئِيسَيْن زِين العَابِدِين بن علي، وَحُسْنِي مُبَارك)، وَمُحَاوَلَات تَـغْيِير القَوَانِين القائمة في البِلَاد (عبر تَـغْـيِير دَسَاتِير هذه البُلدان)، لم تَـكُن كَافِيَة لِتَخْلِيص الشّعب مِن الْاِسْتِبْدَاد السياسي، وَلِإِقَامَة الدِيمُوقْرَاطِيَة، ولِلتَّحَرُّر مِن الفَسَاد، ومِن التَخَلُّف المُجتمعي. لِأَنّ هذه الثَوَرَات المذكورة، اِقْتَصَرَت على إِسْـقَاط الأشخاص الحَاكِمِين، وَتَـغْـيِير الدَسَاتِير القائمة، وَلَم تَـعْـمَـل هذه الثَوَرَات مِن أجل إِسْـقَاط نَمَط الْإِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي، وَتَـعِـوِيضِه بِنَمَط إِنْتَاج اِشْتِرَاكِـي ثَوْرِي سَائِد في المُجتمع. فَكَان مَآلُهَا هو الفَشَل. ثمّ حدثت العَوْدَة إلى نُـقْـطَة الْاِنْطِلَاق. جيثُ أن نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي السَّائِد في المُجتمع، أَعَادَ إِنْتَاج نَـفْس النَّوْع مِن الحُكَّام الفَاسِدِين القُدَامَى (محمّد مُرْسِي، ثمّ عبد الفَتَّاح السِيسِي وَشُرَكَائِهم)، وَأَعَادَ إِنْتَاج نـفس النظام السياسي القَدِيم الْاِسْتِبْدَادِي وَالتَـبَـعِـي.
فَـلَا يُمكن تَـغيير نَوْعِيَة الأشخاص الحاكمين، أو نَوْعِيَة النظام السياسي القائم، سِوَى عَبْر اِسْتِبْدَال نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي التَبَـعِـي السَّائِد في المُجتمع، بِنَمَط اِنْتَاج اِشْتِرَاكِي ثَوِْرِي. كما أنه لا يُمكن التَحرّر مِن التَخَلُّف المُجتمعي الشَّامِل سِوَى عَبْر الخُرُوج مِن نَمَط الْإِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي التَابِـع، والْاِنْتِـقَال إلى الْاِشْتِرَاكِيَة الثَوْرِيَة. لأنه يُوجَد تَرَابُط عُضْوِيّ بين، من جهة أولى، نَوْعِيَة الدّولة القائمة، أو نَوْعِيَة النظام السياسي القائم، وَمن جهة أخرى، بَيْن نَوْعِيَة نَمَط الْاِنْتَاج الرَّأْسَمَالِي السَّائِد في المُجتمع المعني.
[ هذا مُقْتَطَف مِن كتاب:
رحمان النوضة، أُطْرُوحات حول الدّولة، نشر 2022، الصفحات 96، الصيغة 12.
ويُمكن تنزيله من المُدوّنة:
https://LivresChauds.Wordpress.Com ]